الكاتب :صابر العياري
صابر العياري ، صحفي مختص في الصحافة الإلكترونية ورئيس تحرير سابق لعدد من المواقع الإلكترونية
تفسيري
المرجين في القيروان: أزمة بيئية تتجدد وثروة تنتظر التثمين
تفسيري
المرجين في القيروان: أزمة بيئية تتجدد وثروة تنتظر التثمين
مع كل موسم لجني الزيتون وعصره، تعود إلى الواجهة في ولاية القيروان معضلة بيئية وصحية مزمنة تتمثل في مادة "المرجين"، وهي المخلفات السائلة الناتجة عن عملية استخراج الزيت. تشكّل هذه المادة مصدر خطر بيئي كبير على الهواء والتربة والمياه، ما يطرح تحديات لوجستية وبيئية تستدعي إيجاد حلول عاجلة ومستدامة تليق بمكانة الولاية كأحد أكبر الأقطاب المنتجة للزيتون في تونس. في المقابل، ترى جهات أخرى أن المرجين يمثل ثروة وطنية ينبغي التركيز على استثمارها، خاصة في مجال تسميد الأراضي.
سنحاول في هذا المقال التفسيري فهم الظاهرة والبحث في أضرار المرجين على التربة والمياه، ومعرفة ما إذا كان سببا في تلوث المياه بولاية القيروان، بالإضافة إلى استعراض الحلول الممكنة لحماية الأرض من أضراره.
تُعد ولاية القيروان من الولايات الرائدة في قطاع الزيتون على المستوى الوطني، حيث تغطي مساحات شاسعة من أراضيها بأشجار الزيتون، وتساهم بنسبة 12 % من الإنتاج الوطني للزيت التي قدرت هذه السنة بـ 248 ألف طن من الزيتون، أي ما يعادل نحو 52 ألف طن من زيت الزيتون وفق المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بالقيروان. هذا الإنتاج الضخم يرافقه إنتاج كميات هائلة من مادة المرجين تقدر بعشرات الآلاف من الأمتار المكعبة في الموسم الواحد، وخاصة في المناطق الجنوبية للولاية مثل بوحجلة ونصر الله و الشراردة التي تضم عددا كبيرا من معاصر الزيتون.
يمثل المرجين بمكوناته العضوية وتركيزه العالي من المواد الملوثة خطرا جديا على البيئة وصحة المتساكنين خاصة مع غياب مصبات مهيأة وكافية أو عدم التزام بعض أصحاب المعاصر بضوابط التخلص الآمن من فضلات المرجين عبر السكب العشوائي في التربة والأراضي الفلاحية.
ويعتبر تأثير المرجين من مشاكل التلوث الشامل إذ يتمثل الخطر الأكبر في السكب العشوائي على جوانب الطرقات والأراضي الفلاحية والمسالك، مما يحوّل لون التربة إلى السواد ويؤدي إلى:
- تلوث الهواء: انتشار الروائح الكريهة.
- تضرر التربة والمحاصيل: تدهور جودة الأراضي الفلاحية المحيطة.
- خطر على المائدة المائية: تسرب المادة إلى المياه الجوفية.
وأصبح التأثير شاملاً بسبب نقص المصبّات المخصّصة لاستيعاب المرجين، إذ إن مصبّ "اللبية" بمعتمدية بوحجلة ومصبّ "الشوايحية" بمعتمدية الشراردة يكونان في الغالب غير جاهزين أو غير مستوفيين للمعايير البيئية، مما يؤدي أحيانًا إلى حوادث مثل تكسّر حواجز الأحواض وتسرب المادة لتغمر الأراضي المجاورة.
ويرى الخبراء أن المرجين يُعدّ "قنبلة بيئية موقوتة" وشديدة التلوث، لما له من تأثيرات خطيرة على البيئة والمجتمع في ولاية القيروان، وذلك بسبب تركيبته الكيميائية المعقدة.
وأكد الباحث الشاب لطفي الغريبي، الحاصل على الدكتوراه في الكيمياء، في تصريح لموقع البيئة نيوز، أن من بين العناصر التي توصّل إليها خلال دراسته، أنّ العدد الكبير من معاصر الزيتون في منطقة بوحجلة , والذي يبلغ حوالي 100 معصرة, يجعل كميات المرجين المتأتية من عملية العصر كبيرة جدًا. وأضاف أن هناك نقائص وتجاوزات في مصبّي اللبية والشوايحية، خاصة على مستوى التهيئة، كما أن أغلب التراخيص لا تستجيب للشروط البيئية ولا تراعي أولوية تقليل استهلاك المياه، التي تتحول بدورها إلى فضلات سائلة تحتوي على مركبات "الفينولات" السامة، ما يُلحق أضرارًا بالتربة ويتسرب إلى المائدة المائية في حال ركودها.
من ناحية أخرى، تشهد ولاية القيروان نقصًا حادًا في مياه الشرب وفي المائدة المائية الجوفية، غير أن استهلاك المياه خلال فترة عصر الزيتون وتحويله إلى زيت يفاقم هذا النقص بشكل كبير.
إذ يُستهلك ما بين 30 و150 لترًا من الماء الصالح للشرب لكل طن واحد من الزيتون المعصور في نظام العصر الحديث، وذلك باختلاف نوعية الزيتون وطريقة العصر.
أما في نظام العصر التقليدي، فيُستهلك ما يقارب 1000 لتر (أي متر مكعب واحد) أو أكثر من المياه لكل طن من الزيتون، ويشمل ذلك كميات المياه المستخدمة في غسل الزيتون والمعدات، وكذلك تلك التي تُضاف إلى العجينة لتسهيل استخراج الزيت.
وينتج عن هذه العملية كمية من المرجين تتراوح عمومًا بين 640 و1200 لتر لكل طن من الزيتون المعصور، وفقًا لأغلب الدراسات المتوفرة.
ومن جهته يطلق المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية سنويا صيحات فزع للتحذير من هذه المصبات التي تشكل تهديدًا بيئيًا وصحيًا بسبب التلوث الناجم عن تسرب المادة إلى التربة والمياه الجوفية إضافة إلى التهاون المتكرر في التعاطي مع هذا الملف مطالبا بتدخل عاجل للحد من هذه الانتهاكات البيئية وإيجاد حلول مستدامة ، حسب ما نشرته إذاعة صبرة أف أم بالقيروان.
المرجين : من كارثة بيئية" إلى فرصة اقتصادية
في المقابل، يرى الخبراء البيئيون أن المرجين ليس مجرد نفايات أو فضلات بيئية ، بل هو ثروة طبيعية يمكن تثمينها وتحويلها إلى قيمة اقتصادية، وذلك عبر التسميد العضوي إذ يمكن استغلال المرجين كمادة مخصبة للأراضي الفلاحية بعد المعالجة، خاصة لأشجار الزيتون والكروم، شريطة الالتزام بضوابط صارمة لتفادي الضرر بالتربة والمحاصيل الورقية ، وهناك أبحاث ودراسات تشير إلى إمكانية تحويل المرجين إلى مصادر طاقة بديلة أو مواد أخرى مثل الفحم النباتي، مما يفتح آفاقاً جديدة للاستثمار في الاقتصاد الأخضر.
وقد نشرت المندوبية المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بالقيروان مقطع فيديو عن أهمية فرش مادة المرجين على غراسات الزيتون للمهندس عماد دمق رئيس خلية الارشاد الفلاحي بصفاقس تحدث فيه عن استعمال المرجين في عملية التسميد الطبيعي للتربة.
إن إنقاذ البيئة وصحة المواطن في ولاية القيروان يمرّ حتمًا عبر معالجة علمية ومسؤولة لملف المرجين، بما يحوّله من مصدر قلق موسمي إلى مورد محتمل للتنمية المستدامة.
وفي إطار الاستعداد للموسم الزيتي لسنة 2025، ولضمان حسن التصرف في مادة المرجين، أشرف والي القيروان ذاكر البرقاوي يوم 3 أكتوبر 2025 على جلسة عمل خُصصت لهذا الملف، تم خلالها عرض نتائج الزيارات الميدانية الهادفة إلى تحيين قائمة المصبّات والمواقع الممكن استغلالها، وتقييم مدى جاهزيتها للاستغلال خلال الموسم الحالي.
وعلى ضوء العروض والمناقشات، تم الاتفاق على جملة من التوصيات، أبرزها:
إعادة استغلال المصبّ الجماعي الخاص بالعواقبية بمعتمدية الشراردة.
الالتزام الإجباري بعملية الرشّ الفني للمرجين وفق الشروط والمعايير البيئية المعتمدة.
تحديد موقعين تابعين لأملاك الدولة لإحداث مصبّين جماعيين جديدين، مع التسريع في استكمال الإجراءات القانونية والإدارية اللازمة لإنجاز المشروع.
وتم التأكيد خلال الجلسة على ضرورة التنسيق المستمر بين مختلف المتدخلين من سلطات جهوية وبلدية وهياكل بيئية لضمان حسن تنفيذ هذه التوصيات ومتابعة مدى احترام الشروط الفنية في معالجة المرجين.
ونظّمت المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بالقيروان، بالتعاون مع وكالة الإرشاد والتكوين الفلاحي ومعهد الزيتونة، يومًا إعلاميًا حول تثمين مادة المرجين في القطاع الفلاحي، وذلك يوم الأربعاء 27 أوت 2025 بعمادة الجهينة من معتمدية بوحجلة.
وتضمّن البرنامج مداخلتين؛ الأولى بعنوان: "موسم الزياتين بولاية القيروان والإطار القانوني والمؤسساتي للتصرف في مادة المرجين"، قدّمتها دائرة الإنتاج النباتي،
والثانية بعنوان: "نتائج البحث العلمي حول تثمين مادة المرجين في القطاع الفلاحي"، قدّمها معهد الزيتونة.
في إطار الاستعدادات لموسم جني الزيتون وتحويله لسنة 2025 / 2026 بولاية القيروان، أشرف والي الجهة ذاكر البرقاوي يوم الأربعاء 10 سبتمبر 2025، بمقر الولاية، على جلسة عمل خُصّصت لمتابعة الاستعدادات اللوجستية والمادية لضمان نجاح الموسم الزيتي، ولإحكام التصرف في مادة المرجين.
وتم خلال الجلسة التطرق إلى الوضعية الحالية لمصبات المرجين، واستعراض مختلف الصعوبات والإشكاليات المرتبطة بطرق التصرف فيها، إلى جانب تقديم أهم التدخلات والحلول المقترحة لتجاوزها.
ودعا الوالي إلى ضرورة وضع خطة عمل عاجلة بمشاركة جميع المتدخلين لمعالجة هذه الإشكاليات، من خلال:
- اعتماد نظام الرشّ للمرجين بهدف تثمينه واستغلاله في تسميد الأراضي بنسبة تصل إلى 50% من الكميات المنتجة.
- دعوة أصحاب المعاصر إلى الالتزام بتوفير مساحات مخصصة لفرش مادة المرجين بما يعادل 50% من طاقة إنتاجهم.
- تكليف بلدية بوحجلة بالتدخل لإعادة فتح مصبّ "اللبية".
- العمل على تحديد أراضٍ تابعة لأملاك الدولة لاستغلالها كمصبات جماعية مرخّصة قانونيًا.
- تشديد الرقابة على المصبات لتفادي السكب العشوائي، مع توعية الفلاحين بأهمية تثمين المرجين ودوره في تحسين خصوبة التربة والتقليص من انتشار الأعشاب الطفيلية.
وقد شدّد الوالي في ختام الجلسة على ضرورة التنسيق بين مختلف الأطراف لضمان تنفيذ هذه الإجراءات بصفة فورية وفعالة.
رغم هذه الاستعدادات والتدخلات التي تراها السلطة حثيثة ويراها أصحاب المعاصر والمواطنون في القيروان غير كافية ، تتطلب معضلة المرجين في القيروان خطة عاجلة وشاملة تعتمد على تضافر جهود السلطات الجهوية وأصحاب المعاصر والمجتمع المدني، يبقى الحل الجذري في:
- المراقبة الصارمة: تفعيل دور اللجان الفنية وتطبيق القانون على المخالفين لمنع السكب العشوائي.
- تأهيل المصبات: الإسراع في تهيئة وتجهيز مصبات المرجين لتستجيب للمعايير البيئية والصحية.
- تبني التثمين: تشجيع ودعم المشاريع والأبحاث العلمية التي تهدف إلى تثمين المرجين وتحويله إلى سماد عضوي أو مصدر للطاقة، لجعله عنصراً فاعلاً في الدورة الاقتصادية بدلاً من كونه عبئًا بيئيًا.
حاولنا من خلال هذا المقال التفسيري تسليط الضوء على الأزمة السنوية التي ترافق موسم جني الزيتون، وبوجه خاص على أزمة المرجين التي تتجدد كل عام باعتبارها أحد المخلّفات البيئية الناتجة عن عمليات الجني والعصر.
وقد بيّنا مدى أضرار هذه المادة على البيئة، لا سيّما على الهواء والتربة والمياه، إلى جانب الإشارة إلى أنّ المرجين يمكن أن يُمثّل ,في حال حُسن التعامل معه, ثروة طبيعية قابلة للاستثمار ضمن مقاربة علمية واستراتيجية مستدامة ، ليبقى المرجين في القيروان أزمة بيئية متجددة وثروة تنتظر التثمين.
الكاتب :صابر العياري
صابر العياري ، صحفي مختص في الصحافة الإلكترونية ورئيس تحرير سابق لعدد من المواقع الإلكترونية