تفسيري
فيضانات أسفي والمنخفضات الجوية: تفسير علمي للحدث المتوسطي وتأثيراته المحتملة على تونس.
تفسيري
فيضانات أسفي والمنخفضات الجوية: تفسير علمي للحدث المتوسطي وتأثيراته المحتملة على تونس.
مصدر الصورة: وكالة الأناضول
أعادت الفيضانات العنيفة التي شهدتها مدينة "أسفي" بالمغرب مؤخرًا النقاش حول دور المنخفضات الجوية المتوسطية في التسبّب في كوارث حضرية، حتى في غياب ظواهر جوية متطرفة مثل الأعاصير. فقد تسبّبت أمطار غزيرة هطلت في فترة زمنية قصيرة في غمر أحياء كاملة، وارتفاع منسوب المياه إلى قرابة أربعة أمتار في بعض النقاط، مع تسجيل عشرات الضحايا وخسائر مادية كبيرة. ورغم الطابع المأساوي للحدث، فإن المعطيات الجوية تشير إلى أن المنخفض الجوي المرتبط بهذه الأمطار يندرج ضمن الأنظمة الجوية المعروفة في المنطقة، ما يطرح تساؤلات حول أسباب تحوّل حالة مطرية إلى فيضان حضري واسع النطاق.
نحاول في هذا المقال التفسيري التطرق من ناحية علمية للحدث وتأثيراته المحتملة على تونس .
EM-DAT – قاعدة بيانات الكوارث (لتصنيف الفيضانات):
+-
من الناحية الجوية، ارتبطت أمطار أسفي بمنخفض جوي تشكّل فوق غرب البحر الأبيض المتوسط، تغذّى بهواء بارد في الطبقات العليا ورطوبة دافئة قادمة من المحيط الأطلسي. هذا النوع من الأنظمة الجوية يُعرف علميًا بمنخفضات العروض الوسطى، وهي شائعة في حوض المتوسط خلال فصلي الخريف والشتاء. غير أن الأبحاث المناخية المحكمة توضّح أن خطورة هذه المنخفضات لا تُقاس فقط بقيم الضغط الجوي، بل بخصائصها الديناميكية، مثل سرعة تطورها وبطء حركتها أو شبه تمركزها فوق نفس المنطقة، إضافة إلى تزامنها مع اضطرابات رعدية. هذه الخصائص يمكن أن تؤدي إلى هطول أمطار قصيرة المدة وعالية الشدة، حتى في غياب كميات مطرية قياسية على مدار اليوم.
دراسات حول ديناميكية المنخفضات المتوسطية:
ارتبطت الأمطار الغزيرة بمنخفض جوي تشكّل فوق غرب البحر الأبيض المتوسط، يغذّيه هواء بارد في الطبقات العليا ورطوبة دافئة من المحيط الأطلسي، وهو نوع معروف علميًا باسم منخفضات العروض الوسطى (Mid-latitude Cyclones)، شائع خلال فصلي الخريف والشتاء. تشير الدراسات المنشورة في مجلات محكّمة مثل Quarterly Journal of the Royal Meteorological Society (Hoskins & Hodges) وJournal of Climate (Trigo et al.) إلى أن خطورة هذه المنخفضات لا تعتمد فقط على قيم الضغط الجوي، بل على خصائصها الزمنية والمكانية، مثل بطء الحركة أو تمركزها فوق نفس المنطقة، وتزامنها مع اضطرابات رعدية، ما يؤدي إلى هطول أمطار قصيرة المدة وعالية الشدة. وعند تزامن هذه الأمطار مع بنية حضرية غير مجهزة، يمكن أن تحدث فيضانات حضرية سريعة (Urban Flash Floods)، حيث تتجاوز شدّة الهطول قدرة شبكات التصريف والأسطح غير النافذة على امتصاص المياه، فتتحوّل الشوارع والمناطق المنخفضة إلى مسالك جريان. وقد أكدت دراسات محكّمة في Journal of Hydrology.
Hoskins & Hodges, Quarterly Journal of the Royal Meteorological Society: https://rmets.onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1256/qj.02.80
Trigo et al., Journal of Climate: https://journals.ametsoc.org/.../1520-0442_2002_015_1249...
Marchi et al., Journal of Hydrology: https://www.sciencedirect.com/.../pii/S0022169412006238
IPCC AR6 WGII – فصل المخاطر المرتبطة بالأمطار الشديدة والفيضانات السطحية: https://www.ipcc.ch/report/ar6/wg2/
في هذا السياق يبرز التساؤل حول مدى قابلية تكرار مثل هذه السيناريوهات في تونس. مناخيًا، تتقاسم تونس مع المغرب عدة خصائص أساسية، من بينها الموقع في الحوض المتوسطي، والتأثر بمنخفضات جوية موسمية مماثلة، إضافة إلى تعاقب فترات جفاف طويلة مع اضطرابات رعدية محلية أحيانًا. وقد شهدت البلاد في السنوات الماضية أحداثًا موثقة لأمطار قصيرة المدة وشديدة الغزارة، مثل تلك المسجّلة في الوطن القبلي في السنوات الماضية ، والتي تجاوزت في بعض المناطق 200 مم في يوم واحد وأدّت إلى أضرار واسعة، رغم عدم ارتباطها بظاهرة جوية نادرة.
ورقة Cross‑Chapter Paper 4: Mediterranean Region هي جزء من تقرير التقييم السادس للتغير المناخي (AR6) الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، وتندرج ضمن جزء العمل الثاني (WGII) من هذا التقرير الذي نُشر في عام 2022. التقرير كامل بعنوان Climate Change 2022: Impacts, Adaptation and Vulnerability ويُعنى بتحليل تأثيرات التغير المناخي، قابليّة التأثر، والتكيّف على الأنظمة الطبيعية والبشرية.
وفقًا للورقة تُعد منطقة البحر الأبيض المتوسط من المناطق الحساسة لتغير المناخ، حيث تشير الأبحاث إلى زيادة محتملة في شدة الأمطار المفاجئة واحتمالية حدوث فيضانات حضرية سريعة، خصوصًا في المدن التي تتوسع داخل مجاري الأودية القديمة أو على أسطح غير نافذة. وتوضح الورقة أن الفيضانات في المنطقة لا تعتمد دائمًا على كمية الأمطار اليومية، بل على شدّة الهطول خلال فترات قصيرة وتفاعلها مع البنية التحتية المحلية. كما تبيّن أن فترات الجفاف الطويلة قد تقلل قدرة التربة على الامتصاص السريع للمياه، ما يزيد من سرعة الجريان عند أول عواصف قوية. هذه المعطيات تجعل من المفيد متابعة الظروف الجوية والتخطيط الحضري المناسب، بما في ذلك في تونس، دون أن يعني ذلك بالضرورة أن البلاد معرضة لكوارث مشابهة لتلك التي شهدها المغرب. تمثل هذه الورقة مصدرًا علميًا محكّمًا لفهم المخاطر المناخية في المنطقة.
في هذا الإطار لا يرتبط الحدّ من المخاطر فقط بدقّة التنبؤ بالمنخفضات الجوية، بل أيضًا بجملة من العوامل غير المناخية، مثل صيانة شبكات تصريف مياه الأمطار، واحترام حرم الأودية ومجاري الجريان الطبيعية، وإعداد خرائط دقيقة للمناطق المنخفضة ونقاط التجمّع داخل المدن. كما تؤكد الأدبيات العلمية أن أنظمة الإنذار المبكر المحلية، المصمّمة على مستوى الأحياء وليس فقط على المستوى الوطني، تلعب دورًا مهمًا في تقليص الخسائر البشرية.
IPCC AR6 WGII – Mediterranean Region
توضح فيضانات أسفي أن الكوارث الحضرية في المتوسط غالبًا ما تنتج عن تلاقي منخفضات جوية موسمية مع هطول شديد قصير المدة وهشاشة البنية العمرانية، وليس عن ظواهر جوية نادرة. هذا الفهم العلمي المدعوم بدراسات محكّمة، يسلط الضوء على أهمية استعداد المدن، بما فيها تونس، للتعامل مع الأمطار المكثفة المفاجئة.
