تفسيري

هل يمكن لمجلس نواب الشعب تنقيح المرسوم 54؟

تفسيري

هل يمكن لمجلس نواب الشعب تنقيح المرسوم 54؟

تم يوم الثلاثاء، الموافق لـ20 فيفري 2024، إيداع مبادرة تشريعية باسم عشرة نواب من خمس كتل برلمانية ومن غير المنتمين، وتحظى بدعم من أربعين نائبًا، تتعلق بتنقيح المرسوم عدد 54 لسنة 2022، الذي يتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال. غير أن هذه المبادرة خلقت جوًا من الجدل بين إمكانية نظر مجلس نواب الشعب في هذه المبادرة، وبين قدرته وتوفر الصلاحية القانونية  لعرض المبادرة على التعديل والتنقيح أو حتى الإلغاء. فهل يمكن لمجلس نواب الشعب الحالي النظر في المرسوم، سواء لتعديله أو إلغائه إن اقتضى الأمر؟


جاء في الأحكام العامة بالمرسوم عدد 54 لسنة 2022، المؤرخ في 13 سبتمبر 2022 والصادر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، العدد 103 بتاريخ 16 سبتمبر 2022، أن هذا المرسوم يهدف إلى ضبط الأحكام الرامية إلى التوقي من الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، وزجرها، وتلك المتعلقة بجمع الأدلة الإلكترونية الخاصة بها، ودعم المجهود الدولي في هذا المجال في إطار الاتفاقيات الدولية والإقليمية والثنائية المصادق عليها من قبل الجمهورية التونسية. ويتكون المرسوم من 38 فصلاً، موزعة على خمسة أبواب.

وتُعرّف المراسيم بأنها  نصوص قانونية يُصدرها  رئيس الجمهورية في 3 حالات : عند العطلة البرلمانية و في حالة تفويض البرلمان لبعض الصلاحيات لرئيس الجمهورية و في حالة حل البرلمان . وقد كان القانون التونسي يشير إلى أنه "يجب مع انتهاء الحالة التي بررت اتخاذ المرسوم عرضه على البرلمان للمصادقة عليه.

ولاقى المرسوم منذ نشره بالرائد الرسمي ودخوله حيز التطبيق رفضا من قبل عديد من الجمعيات والمنظمات الوطنية والدولية ويبقي الفصل 24 المتعلق بنشر الأخبار الزائفة والأحكام السجنية الجائرة الأكثر تأثيرا على حرية التعبير والصحافة في تونس . ومن جهتها فقد  كانت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين من أكثر المناهضين لهذا المرسوم الذي يمثل "أداة تكميم للأفواه في حق الصحفيين" بعد أن تم رفع عدد من القضايا والشكاوى في حق الكثير  من الصحفيين والمدونين.

 وينص الفصل 24 "على عقوبة سجنية لمدة 5 سنوات وخطية مالية بـ 50 ألف دينار على كل من يتعمد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج أو ترويج أو نشر أو إرسال أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزورة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الإعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان.
ويعاقب بنفس العقوبات المقررة بالفقرة الأولى كل من يتعمد استعمال أنظمة معلومات لنشر أو إشاعة أخبار أو وثائق مصطنعة أو مزورة أو بيانات تتضمن معطيات شخصية أو نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير أو تشويه سمعته أو الإضرار به ماديا أو معنويا أو التحريض على الاعتداء عليه أو الحث على خطاب الكراهية.
وتضاعف العقوبات المقررة إذا كان الشخص المستهدف موظفا عموميا أو شبهه
".


اعترض  العديد من خبراء القانون والصحفيون/ات ومكونات المجتمع المدني والأوساط السياسية والحقوقية على هذا المرسوم واعتبروه  ضربا لحرية التعبير والصحافة وخاصة في فصله 24 الذي يقضي بأحكام سجنية وقمع الأصوات في تونس.  وقامت  اللجنة الدولية للحقوقيين (ICJ)  بنشر تقرير في  شهر جويلية 2023  تحت عنوان "تونس إسكات الأصوات الحرة " يذكر  أنه تمّ إقرار هذا  المرسوم  من دون أي استشارات أو نقاش عام، ويمثّل تهديدا   لحرية التعبير، بما في ذلك حرية الإعلام، وممارسة حقوق الإنسان في المجال الرقمي، والحق في الخصوصية بتونس. ويتيح المرسوم للسلطة التنفيذية استخدام مقتضياته من أجل تكميم أفواه الأصوات الحرة. ويسمح للسلطات، تحت مسمّى مكافحة الجريمة السيبرانية والأخبار الزائفة , بأن تتحكم في ما  يقوله الأشخاص، بما في ذلك السياسيون والصحفيون والمدافعون عن حقوق الإنسان من خلال المراقبة، والعقوبات الجنائية في انتهاك للالتزامات القانونية لتونس بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والمعايير الدولية".


وأضاف التقرير أن مقتضيات الفصل 24 فضفاضة ومهمة بما أنها لا تتضمن أي تعريف بماهية الأخبار الكاذبة" و"الإشاعات". نتيجة لذلك، فهي تطرح تهديداً خطيراً على ممارسة الحق في حرية التعبير. وبسبب هذه المصطلحات المهمة والفضفاضة، فإنّ المقتضيات لا تستوفي معايير المادة 19 (3) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي بموجبها يشترط أن تكون القيود على ممارسة الحق في حرية التعبير "محدّدة بنص القانون".


ومن جهتها نشرت منظمة  هيومن رايتش ووتش تقريرا بتاريخ 19 ديسمبر 2023 تحت عنوان "تونس: استخدام مرسوم الجرائم الإلكترونية ضد المنتقدين أول حكمين بالسَّجن بموجب المرسوم عدد 54 المستخدَم لخنق حرية التعبير" جاء فيه "ينبغي للسلطات إلغاء هذا المرسوم القمعي، والإفراج عن المحتجزين بموجبه، وإسقاط جميع الملاحقات القضائية الناتجة عن التعبير السلمي.

ونشرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بيانا بتاريخ 19 سبتمبر 2022 دعت فيه رئيس الجمهورية قيس سعيد إلى سحب المرسوم 54 "الذي نص على عقوبات زجرية مبالغ فيها في قضايا نشر ويهدف إلى مزيد التضييقات على حرية التعبير والصحافة بتعلة مكافحة الإشاعات وجرائم المعلومات" وأوضحت نقابة الصحفيين أن هذا القانون تضمّن عديد العقوبات الزجرية التي تفتقد إلى التناسب بين الفعل والعقوبة باعتبار أن جرائم النشر لا يمكن أن تكون عقوبتها السجن لخمس أو عشر سنوات. كما أن المرسوم تضمن توجها متشددا في التعامل مع قضايا مختلفة منها التعبير والنشر على شبكات التواصل الاجتماعي.

ونشرت نقابة الصحفيين التونسيين كذلك  بيانا ممضا مع مختلف الهياكل المهنية لقطاع الإعلام بتاريخ 2 فيفري 2024,  للتأكيد على  ضرورة "إنهاء سياسة ملاحقة الصحفيين وتخويفهم وسجنهم، والقطع مع متابعة الصحفيين وفق قوانين تتعارض مع جوهر المهنة الصحفية وطرق تنظمها على غرار المرسوم 54 ومجلة الاتصالات والمجلة الجزائية وقانون مكافحة الإرهاب، واعتماد المرسوم 115 كآلية وحيدة للتتبع".

وفي هذا الإطار, أكدت خولة شبح منسقة وحدة الرصد بمركز السلامة المهنية للصحفيين في نقابة الصحفيين التونسيين أن المرسوم 54 المتعلق  بمكافحة جرائم أنظمة المعلومات والاتصال مثّل سيفا مسلّطا على الصحفيين منذ انطلاق العمل به. وأضافت أن بداية  إحالة الصحفيين على معنى هذا المرسوم كانت حينا قدمت  وزيرة العدل ليلى جفال,  شكاية في حق الصحفي و  مدير موقع "بزنس نيوز" نزار بهلول على خلفية مقال انتقد فيه الأداء الحكومي في شهر  نوفمبر 2022. وقد تواترت الإحالات إثر ذلك لتبلغ إلى موفى شهر فيفري الجاري 13 إحالة على معنى المرسوم 54 بتهم كنشر الأخبار الزائفة والشتم والسب والقذف العلني.  وقد اتخذت النيابة العمومية في ملفين منهما قرارات بسلب الحرية تم إثرها إطلاق سراح الصحفيين. وأضافت شبح أنه يتم في مناسبات استبعاد المرسوم 115 من قبل المحاكم   في تتبع النشر على الإنترنت رغم أنه يشمل الفضاء الرقمي ويتضمن أحكاما مرتبطة بالجرائم المشار إليها في الفصل 24 من المرسوم 54 والتي فيها عقوبات مالية وسجنية.
كما أفادت  منسقة وحدة الرصد أن القضاء قد توجه الى تفعيل هذا المرسوم في حق الصحفيين والذي يتضمن عقوبات سالبة للحرية قد تصل إلى 10 سنوات سجنا إذا ما كان المشمول بالمحتوى المنشور موظفا عموميا وهو ما يتناقض مع المعايير الدولية من تناسب بين الجرم والعقوبة والمساواة أمام القانون وغيرها من المعايير.


المبادرة التشريعية وأهم أسباب التعديل
تقدمت مجموعة من النواب بمجلس نواب الشعب بمبادرة تشريعية باسم 10 نواب من 5 كتل برلمانية ومن غير المنتمين وتحظى بدعم من 40 نائب، تتعلق بتنقيح المرسوم عدد 54 لسنة 2022 والمتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال.

بالرجوع إلى المبادرة التشريعية المقدمة لإعادة النظر في المرسوم 54 وجدنا أن أهم ما جاء فيها هو  إلغاء الفصل 24 من المرسوم لمعارضته الفصل 55 من الدستور التونسي, إضافة إلى تعديل عدد من الفصول الأخرى في  علاقة بالجرائم الالكترونية من ذلك الفصول 5 و9 و10 وعدم التناسب بين الجريمة والعقوبات المستوجبة.

وتحصلت منصة تونس تتحرى على مقترح المبادرة التشريعية والقائمة الاسمية للنواب الممضين على المبادرة التشريعية المقدمة للبرلمان:

مقترح المبادرة التشريعية :





مجلس نواب الشعب بين إمكانية التعديل وعدم الصلاحية
يرى الكثير  من أنصار مسار 25 جويلية وأنصار الرئيس قيس سعيد أن المبادرة التشريعية المقدمة للبرلمان غير قانونية ولا يمكن له النظر فيها وتعديل المرسوم 54 أو إلغاء بعض فصوله بتعلّة أن  المراسيم الصادرة عن رئاسة الجمهورية محصّنة بالمرسوم  117  لسنة 2021 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 والمتعلّق بالتدابير الاستثنائية.
.  ومن بين هذه الأطراف المعلّق بقناة التاسعة رياض جراد الذي نشر تدوينة على صفحته الشخصية بفايسبوك أكد فيها أن  "المرسوم (خالد الذكر) تمّ إصداره بعد الإطّلاع على الأمر الرئاسي 117 المؤرّخ في 22 سبتمبر 2021؛ و عملا بأحكام الفصول (4 و 7 و 22) من الأمر 117 فإنّه لا يمكن إلغاؤه، أمّا إمكانيّة تعديله فهو من الإختصاصات الحصريّة لرئيس الجمهورية (مرسوم الصلح الجزائي نموذجا) وبالتالي المسألة محسومة".



ومن ناحية أخرى يرى العديد  من خبراء  القانون أن مجلس نواب الشعب هو الجهة الوحيدة المخوّلة للتشريع و باتصال منصة تونس تتحرى بأستاذ القانون الدستوري أمين محفوظ , أكد لنا أن  البرلمان هو الجهة الوحيدة للتشريع في انتظار تكوين مجلس الجهات والأقاليم وأن المجال الذي تدخل فيه المرسوم 54 يمسّ بالحقوق والحريات والتي تعتبر حسب دستور 2022 من الاختصاص الحصري لمجلس نواب الشعب ولا يمكن للسلطة التنفيذية أن تشرّع في مجال الحقوق والحريات . وأضاف محفوظ أن المرسوم 54 وبقية المراسيم التي صدرت بناء على الأمر 117 جاءت في ظرف استثنائي وتنتهي بانتهاء حالة الاستثناء ، ويسترجع البرلمان بعدها صلاحياته في التشريع وإعداد ترسانة قانونية باعتباره ممثلا للوظيفة التشريعية بمجرد دخول دستور 2022 حيز التطبيق وانتخاب مجلس نواب الشعب وانعقاده.

وأشار أمين محفوظ إلى  انتهاء العمل بالأمر الرئاسي 117  في جميع الحالات باعتباره من التدابير الاستثنائية والذي صياغته اعتمادا على الفصل 80 من دستور 2014 والذي تم الاستغناء عنه أيضا.  وأضاف أن المبدأ في القانون الدستوري,  في نظرية إدارة الأزمات ينصّ على أن " التدابير الاستثنائية تنتهي بزوال أسبابها" وطالما أن الأسباب زالت فإن النصوص التي تحكمها تزول معها . و أكّد أنه "لا وجود من الناحية القانونية للأمر 117 بعد الخروج من حالة الاستثناء والدخول في النظام السياسي الدائم المستقر والمستند على دستور 2022" غير أن هناك بعض المشاكل القانونية المطروحة حاليا حسب قوله ، واعتبر أستاذ القانون الدستوري أن مصطلح "لا يمكن تعديل المرسوم 54 بناء على الأمر 117" خاطئ لأن مجلس النواب هو المختص في التشريع في مجال الحقوق والحريات.

ومن جهتها قالت أستاذة القانون الدستوري هناء بن عبدة إن القول بأنه لا يمكن للبرلمان تعديل المرسوم 54 بناء على الفصل السابع من الأمر 117 الذي يحصن المراسيم من دعاوى الطعن بالإلغاء أمام المحكمة الإدارية خاطئ ، لأن المراسيم هي نصوص تصدر عن السلطة التنفيذية في مجال القانون بصفة استثنائية ومؤقتة ، وعند مباشرة البرلمان للعمل فإن كل المراسيم تعرض على أنظاره للمصادقة عليها أو تعديلها أو إلغائها حتى تكتسب صبغتها التشريعية الثابتة والدائمة باعتباره صاحب السلطة الأصلية في التشريع.

وأضافت بن عبدة أن حتى  دستور 2022  قام بتحديد بعض المجالات التي لا تنظم إلا بنصّ تشريعي من البرلمان ومن بينها الحريات العامة والاتصال والإعلام والنشر والعقوبات والجرائم ، و بالتالي فإن المرسوم عدد 54 يدخل بمقتضى دستور  2014 ودستور 2022 في مجال القانون و يجب على البرلمان إعادة الاظر فيه  للمصادقة الكلية أو الجزئية أو إلغائه ، وقالت إن "المراسيم لا تصبح قوانين إلا بعد موافقة البرلمان".

وعن تحصين المراسيم من الطعن بالإلغاء في الأمر 117 أكدت أستاذة القانون الدستوري أن الأمر 117 انتهى بصدور دستور 2022 ، والتحصين من دعوى الإلغاء يهم قضايا تجاوز السلطة أمام المحكمة الإدارية وليس هناك طعن بالإلغاء من قبل البرلمان ، وأضافت أن المحكمة الإدارية لا تقبل الطعن المباشر في المراسيم (إلا في مناسبة وحيدة ابتدائيا تم الرجوع فيها في الاستئناف ) بل يمكن في القوانين الدفع بعدم الدستورية.

ومن ناحيته أكد أستاذ القانون العام والمختص في قانون الإعلام أيمن الزغدودي لمنصة تونس تتحرى أنه يحق للبرلمان مراجعة جميع المراسيم لأنه صاحب الاختصاص الأصلي في المجال التشريعي ولا يمكن القبول بعكس ذلك ويمكن للبرلمان إعداد مقترح قانون لتعويض المرسوم 54 برمته وليس لتعديله فقط وبالتالي فمن يمكنه وضع قانون جديد في مجال الجريمة الإلكترونية يمكن أن يعدل المرسوم عملا بالقاعدة العامة " من أمكنه الأكثر أمكنه الأقل."

وأضاف أيمن الزغدودي أن تعديل مرسوم الصلح الجزائي مرّ عبر البرلمان الذي قام بتنقيحه بمقتض القانون وفي ذلك إقرار بأنه لم يعد بإمكان رئيس الجمهورية اتخاذ مراسيم بنفس الطريقة التي وقع العمل بها قبل انتصاب البرلمان وقد نص الدستور على أن الأمر 117 يعد ملغيا بمجرد تولي السلطة التشريعية وظائفها.

في هذا التحليل المعمق، استعرضنا  المبادرة التشريعية المطروحة لتعديل المرسوم 54، و كشفنا  الأبعاد الرئيسية للموضوع في ضوء النقاش الحالي حول إمكانية مجلس نواب الشعب إجراء التعديلات اللازمة من عدمها . تناولنا هذا الموضوع  من منظور تحليلي، مستعينين بخبرات المختصين لتقديم رؤية شاملة في هذا المقال.