بارادوكس

ضمان الحريات بتونس: بين الواقع و تقييم الحكومة

بارادوكس

ضمان الحريات بتونس: بين الواقع و تقييم الحكومة

"الحريات مضمونة في الدولة التونسية أكثر من أي وقت مضى". هكذا قيّمت  رئاسة الحكومة التونسية وضع الحريات بالبلاد من خلال وثيقة تتضمن  المعطيات والمؤشرات الإيجابية  للفترة الأخيرة نشرتها على صفحتها الرسمية على " فيسبوك" , الخميس الفارط 21 مارس 2024. 

فريق تونس تتحرى قام بالتثبت في مدى صحة هذا المعطى  من خلال العودة على الأحداث والوقائع في الآونة الأخيرة  ودراسة مختلف  التقارير الصادرة عن المنظمات  الحقوقية.   حيث لاحظنا  تضارب وتناقض بين  تقييم وضع  و ضمان الحريات التي  قدمته رئاسة الحكومة وبين الواقع الراهن الذي يشير إلى تدهور  الحريات في البلاد بشكل ملحوظ و الذي أقل ما يمكن أن يقال عنه  خطير حسب ما تفيد به المنظمات الحقوقية المحلّية والدّولية .


تونس تفقد مكانتها العالمية في حرية التعبير

تراجعت تونس ب 27 مركز في التصنيف العالمي لحرية الصحافة حسب تقرير نشرته منظمة "مراسلون بلا حدود" ( منظمة دولية تأسست في عام 1985 للدفاع عن حرية الصحافة وحقوق الصحفيين. تعمل على مراقبة وضعية حرية الصحافة عالميًا ونشر تقارير سنوية حول هذه القضية) بتاريخ 03 ماي 2023 الموافق  لليوم العالمي لحرية الصحافة.  احتلت تونس  المرتبة 121 من بين 180 دولة تم تصنيفها. وأرجع نقيب الصحفيين التونسيين آنذاك, محمد ياسين الجلاصي هذا التراجع  إلى زيادة حالات الاعتداء ومحاكمات الرأي وتقييد حرية التعبير والمعلومات.وللتذكير, فقد شغلت تونس  المرتبة 94 سنة 2021 والمرتبة 73 سنة  2020.

و يعتمد التصنيف على عدة معايير مثل الاستقلالية والتعددية الإعلامية والإطار التشريعي والسياق السياسي وقياس حالات انتهاكات حقوق الصحافة، ويتم جمع المعلومات من خلال استطلاع يُجريه صحفيون وأكاديميون..

كما تبيّن تقارير منظمة "مراسلون بلا حدود" أن تونس تراجعت بشكل كبير في تصنيف حرية الصحافة في العالم بمقدار 27 مرتبة. هذا التراجع يأتي نتيجة لملاحقة الصحفيين قضائياً بموجب قوانين خارجة عن إطار القوانين المعترف بها دولياً في مجال حرية الصحافة والتعبير ودون اعتماد القوانين المنظمة للمهنة خاصة المرسوم 115 الذي اعتُمد بعد الثورة في سنة 2011. تشمل هذه الممارسات إحالة الصحفيين إلى المحاكم المدنية أو العسكرية بموجب مراسيم وقوانين غير متوافقة مع مبادئ الحرية الصحفية. مثل قانون مكافحة الإرهاب و غسيل الأموال و المرسوم عدد 54 المتعلّق بالجرائم الالكترونية وغيرها..


كما كشف تقرير منظّمة "المادة 19"( منظمة غير حكومية دولية تأسست عام 1987, تعمل على تعزيز حقوق حرية التعبير وحرية الصحافة في جميع أنحاء العالم ) حول حرية التعبير لسنة 2023 عن تراجع واضح في مستوى حرية التعبير على الصعيد العالمي،حيث جاءت تونس، في المرتبة 76 من أصل 161 دولة، وهو يعود إلى التراجع الأخير في التصنيفات العالمية للديمقراطية وحرية الصحافة. حسب المنظمة.


كما تكشف تقارير وحدة رصد الانتهاكات بمركز السّلامة المهنيّة في النّقابة الوطنيّة للصحفيين التّونسيين ، و لعلّ أبرزها  التقرير السّنوي الصادر بشهر ماي 2023, عن  تواصل رصد حالات الاعتداءات  على الصحفيين والصحفيات و المصورين والمصورات. حيث  سجلت النقابة خلال الفترة الممتدة من 1 ماي 2022 إلى نهاية شهر أفريل 2023، 257 حالة اعتداء، وهو ما يعدّ  ارتفاعا كبيرا للسنة الثالثة على التوالي منذ سنة 2020 حسب نفس التّقرير


و في "التقرير العالمي 2024" الصادر عن منظمة "هيومن رايتس ووتش"، أشارت المنظمة إلى تدهور حقوق الإنسان وسيادة القانون في تونس خلال عام 2023، حيث لم تكن هناك ضوابط حقيقية على سلطة الرئيس قيس سعيّد.و  اتخذت الحكومة خطوات لقمع التعبير الحر ومحاكمة المعارضين وقمع المهاجرين وطالبي اللجوء.

سلسبيل شلالي، مديرة مكتب هيومن رايتس ووتش في تونس، أشارت إلى أن الرئيس سعيّد قام بسجن العديد من معارضيه ومنتقديه، وأثار العنصرية والكراهية ضد المهاجرين واللاجئين السود، مما تسبب في تهديد أنشطة المجتمع المدني. كما لوحظ أن حبس المعارضين وتعريض القضاء للتأثير أصبحا أكثر صرامة من أي وقت مضى منذ ثورة 2011.

تم خلال العام الماضي, تمّ  تكثيف الاعتقالات والمحاكمات المسيّسة ضد شخصيات معارضة من مختلف التوجهات السياسية، ومحامين، ونشطاء، وصحفيين. وحتى نهاية العام، كان هناك على الأقل 40 معارضًا أو شخصًا يعتبرون منتقدين للسلطات خلف القضبان، متهمين بـ "التآمر على أمن الدولة" أو بتهم مشكوك فيها تتعلق بالإرهاب، وذلك غالبًا بسبب خطابهم السلمي أو نشاطهم السلمي. حسب التقرير

وأضافت المنظمة أن السلطات التونسية استخدمت قانون الجرائم الإلكترونية لمحاكمة الأشخاص بتهمة نشر "أخبار كاذبة" و"شائعات" على الإنترنت، مما أدى إلى اعتقال 21 شخصًا على الأقل بشكل تعسفي أو محاكمتهم أو التحقيق معهم، بالإضافة إلى طرد مهاجرين وطالبي لجوء بطريقة قاسية وغير قانونية.

إن ما شهدته تونس خلال العام الماضي يظهر تزايدًا في الانتهاكات ضد حقوق الإنسان وتقويض سيادة القانون، مما يتطلب تدخلًا عاجلاً لضمان احترام الحقوق الأساسية واستقلالية القضاء في البلاد.

وكانت منظمة العفو الدولية قد  دعت السلطات التونسية إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن ستة نشطاء معارضين سياسيين تم احتجازهم تعسفيًا لأكثر من عام، وذلك بعدما تم التحقيق معهم بتهم لا أساس لها من الصحة، مثل "التآمر على أمن الدولة"، بسبب معارضتهم السياسية وممارستهم لحقهم في حرية التجمع.

قاضي الاستئناف رفض الطلبات الأخيرة المقدمة ضد الاحتجاز الاحتياطي المطوّل لهؤلاء النشطاء، مما يظهر عدم استعداد الحكومة للتراجع عن القضايا المزعومة بشأن "التآمر"، والتي شهدت حتى الآن التحقيق مع أكثر من 50 شخصًا.

كما وصفت  مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا لمنظمة العفو الدولية، هبة مرايف,  الوضع بأنه "فظيع"، مشيرة إلى عدم تقديم أي دليل منذ 12 شهرًا ضد المعارضين المحتجزين، واصفة استمرار اعتقالهم بأنه "محتجز لأسباب سياسية".

وفي جانفي 2024، أطلقت السلطات التونسية تحقيقًا ضد 17 شخصًا بتهمة  ما يسمّى ب"التآمر على أمن الدولة"، واعتقلت تعسفيًا ثمانية من قادة المعارضة، وبقي ستة منهم محتجزين حتى الآن.

ودعا الاتحاد الدولي للصحفيين ,يوم 04 جانفي 2024 في رسالة مفتوحة الى رئيس الجمهورية قيس سعيد الى ممارسة صلاحياته لفرض احترام الدستور وحماية الحريات الصحفية. و أصدر  بيانا يعبر فيه عن قلقه العميق إزاء تزايد حالات اعتقال الصحفيين في تونس، معتبرا هذا التصرف مناقضا  لحقوق الإعلام والتعبير المكفولة في الدستور التونسي. وأكد البيان على أن اعتقال الصحفيين ووضعهم في السجن يشكل خطرا على الضمانات القانونية الموجودة في الدستور والقوانين التونسية والمعاهدات الدولية.

و تجدر الإشارة إلى حادثة  اعتقال  زياد الهاني  في 28 ديسمبر 2023، على خلفية تصريحات إذاعية وصدور  حكم بالسجن بحقه لمدة  ستة أشهر مع إيقاف  التنفيذ  و تم إطلاق  سراحه مساء الأربعاء  11 جانفي 2024 . و في ما يخص الصحفي خليفة القاسمي الذي تم ايقافه خليفة يوم  3 سبتمبر 2023،  تنفيذا للحكم الاستئنافي القاضي بسجنه 5 سنوات بتهمة "المشاركة في تعمّد إفشاء معلومات متعلّقة بعمليات الإعتراض والمعطيات المجمّعة منها" على معنى القانون المتعلّق بمكافحة الإرهاب والمجلّة الجزائية، بعد نشر خبر يتعلق بتفكيك خلية إرهابية في القيروان. وتمّ الإفراج عنه تم مساء يوم الأربعاء 6 مارس 2024 بعد قرار محكمة التعقيب بتونس بنقض الحكم الاستئنافي الصادر في حقه. 

 أما  بالنسبة لملف الصحفية شذى الحاج مبارك،  تتم   متابعتها منذ شهر سبتمبر 2021 بتهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي رغم أن التشريعات التونسية  تضمن لها المحاكمة بحالة سراح.

 قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بالقيروان أصدر بطاقة إيداع بالسجن في حق الصحفي ياسين الرمضاني أيضا  بموجب المرسوم عدد 54، بناءً على شكوى وزير الداخلية السابق توفيق شرف الدين بسبب تدوينة نشرها على فيسبوك واعتذر لاحقًا عنها. تم احتجاز الرمضاني يوم الثلاثاء 3 أكتوبر 2023 بعد سماعه  من قبل الجهات القضائية المختصة.وتمّ الافراج عنه يوم 01 ديسمبر 2023.

وأكّدت مختلف المنظّمات غير الحكوميّة المحلّية و الدّولية على أن هذه الحالات تمثل انتهاكا لحرية التعبير والصحافة، وتعتبر استغلالا واضحا للسلطة و خرقا للإجراءات القانونية.

وفي وقت سابق بتاريخ 30 جوان 2023 صرحت أربع منظمات حقوقية و هي اللجنة الدولية للحقوقيين و الخدمة الدولية لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش , أن على مجلس حقوق الإنسان أن يعالج بصورة طارئة تدهور حالة حقوق الإنسان في تونس، وذلك في الوقت الذي تنعقد فيه الدورة الـ 53 للمجلس.

دعت هذه المنظمات إلى تدخل عاجل من مجلس حقوق الإنسان لمعالجة التدهور السريع لوضع حقوق الإنسان في تونس. وجاءت الدعوة للمجلس وللدول الأعضاء فيه للضغط على السلطات التونسية من أجل الامتثال لالتزاماتها الدولية بحقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق الحريات الأساسية مثل حرية التعبير وحرية التجمع السلمي وحرية الصحافة وحرية المحاكمة العادلة.


نذكر أنّ النيابة العمومية قررت مساء الجمعة 24 مارس 2024 الاحتفاظ بالصحفي محمد بوغلاب لمدة 48 ساعة بناءً على شكوى قدمتها متصرفة بوزارة الشؤون الدينية بسبب تعليقاته حول زيارات بالخارج وسياسات الوزارة. تمت إثارة الدعوى ضده بموجب القوانين المتعلقة بالعنف ضد المرأة والقانون الجزائي ومجلة الاتصالات ومكافحة جرائم أنظمة المعلومات والاتصال.  وطالبت نقابة الصحفيين التونسيين بالإفراج الفوري وغير المشروط عن الصحفي محمد بوغلاب و وقف تتبعه بسبب آرائه ، وأعلنت استعدادها لاتخاذ جميع التحركات اللازمة للدفاع عن حرية الرأي والتعبير.

توقيع الرئيس التونسي قيس سعيد على المرسوم 54 في سبتمبر 2022 جاء بغرض مكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، ولكن سرعان ما تبين أن هذا القانون وغيره من التشريعات يُستخدم لتقييد حرية التعبير والنقاشات العامة. فبعد وقت قصير من صدوره، تحول المرسوم إلى أداة لاعتقال الصحفيين والشخصيات العامة والمواطنين، وتهديدهم والتضييق عليهم بسبب أدائهم لعملهم الصحفي أو التعبير عن وجهات نظر نقدية.

يُعتبر هذا التراجع خطوة للوراء و  تهديدا  اللانتقال الديمقراطي الذي شهدته تونس بعد الثورة  و تحذيرًا صارمًا من انحدار حرية التعبير الذي  يهدد الديمقراطية بشكل عام.